فصل: ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة:

.ذكر نهب صلاح الدين بلد الإسماعيلية:

لما رحل صلاح الدين من حلب، على ما ذكرناه قبل، قصد بلاد الإسماعيلية، في المحرم ليقاتلهم بما فعلوه من الوثوب عليه وإرادة قتله، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه، وحصر قلعة مصياب، وهي أعظم حصونهم، وأحصن قلاعهم، فنصب عليها المجانيق، وضيق على من بها، ولم يزل كذلك، فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى شهاب الدين الحارمي، صاحب حماة، وهو ابن خال صلاح الدين، يسأله أن يدخل بينهم ويصلح الحال ويشفع فيهم، ويقول له: إن لم تفعل قتلناك وجميع أهل صلاح الدين وأمراءه، فحضر شهاب الدين عند صلاح الدين وشفع فيهم وسأل الصفح عنهم، فأجابه إلى ذلك، وصالحهم، ورحل عنهم.
وكان عسكره قد ملوا من طول البيكار، وقد امتلأت أيديهم من غنائم عسكر الموصل، ونهب بلد الإسماعيلية، فطلبوا العود إلى بلادهم للراحة، فأذن لهم، وسار هو إلى مصر مع عسكرها، لأنه قد طال بعده عنها، ولم يمكنه المضي إليها فيما تقدم خوفاً على بلاد الشام؛ فلما انهزم سيف الدين، وحصر هو حلب، وملك بلادها، واصطلحوا، أمن على البلاد، فسار إلى مصر، فلما وصل إليها أمر ببناء سور على مصر في الشعاري والغياض والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم، دوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.

.ذكر ظفر المسلمين بالفرنج والفرنج بالمسلمين:

كان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صاحب بعلبك، قد أتاه خبراً أن جمعاً من الفرنج قد قصدوا البقاع من أعمال بعلبك، وأغاروا عليها، فسار إليهم، وكمن لهم في الشعاري والغياض، وأوقع بهم، وقتل فيهم وأكثر، وأسر نحو مائتي رجل منهم وسيرهم إلى صلاح الدين.
وكان شمس الدولة توارنشاه، أخو صلاح الدين، وهو الذي ملك اليمن، قد وصل إلى دمشق، كما ذكرناه، وهو فيها، فسمع أن طائفة من الفرنج قد خرجوا من بلادهم إلى أعمال دمشق، فسار إليهم ولقيهم عند عين الجر في تلك المروج، فلم يثبت لهم، وانهزم عنهم، فظفروا بجمع من أصحابه، فأسروهم، منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار، وهو من أعيان الجند الدمشقيين، واجترأ الفرنج بعده، وانبسطوا في تلك الولاية، وجبروا الكسر الذي ناله منهم ابن المقدم.

.عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين:

ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين وعوده إلى طاعته:
في هذه السنة عصى شهاب الدين محمد بن بزان، صاحب شهرزور، على سيف الدين غازي وكان في طاعته وتحت حكمه.
وكان سبب ذلك أن مجاهد الدين قايماز كان متولياً مدينة أربل، وكان بينه وبين ابن بزان عداوة محكمة، فلما استناب سيف الدين مجاهد الدين بالموصل خاف ابن بزان أن يناله منه أذى، فأظهر الامتناع من النزول إلى الخدمة، فأرسل إليه جلال الدين وزيره سيف الدين كتاباً يأمره بمعاودة الطاعة، ويحذره عاقبة المخالفة، وهو من احسن الكتب وأبلغها في هذا المعنى، ولولا خوف التطويل لذكرته، فليطلب من مكاتباته؛ فلما وصل إليه الكتاب والرسول، بادر إلى حضور الخدمة بالموصل وزال الخلف.

.ذكر فرج بعد شدة يتعلق بالتاريخ:

بالقرب من جزيرة ابن عمر حصن منيع من امنع المعاقل اسمه فنك، وهو على راس جبل عال، وهو للأكراد البشنوية، له بأيديهم نحو ثلاثمائة سنة؛ وكان صاحبه هذه السنة أمير منهم اسمه إبراهيم، وله أخ اسمه عيسى، قد خرج منه، وهو لا يزال يسعى في أخذه من أخيه إبراهيم ن فأطاعه بعض بطانة إبراهيم، وفتح باب السر ليلاً، واصعد منه إلى رأس القلعة نيفاً وعشرين رجلاً من أصحاب عيسى، فقبضوا على إبراهيم ومن عنده، ولم يكن عنده إلا نفر من خواصه، وهذه قلة على صخرة كبيرة مرتفعة عن سائر القلعة ارتفاعاً كثيراُ؛ وبها يسكن الأمير وأهله وخواصه، وباقي الجند في القلعة تحت القلة، فلما قبضوا إبراهيم جعلوه في خزانة، وضربه بعضهم بسيف في يده على عاتقه، فلم يصنع شيئاً، فلما جعل في الخزانة وكل به رجلان، وصعد الباقون إلى سطح القلة، ولا يشكون أن القلعة لهم لا مانع عنها.
ووصل من الغد بكرة الأمير عيسى ليتسلم القلعة، وبينها دجلة، وكانت امرأة الأمير إبراهيم في خزانة أخرى، وفيها شباك حديد ثقيل يشرف على القلعة، فجذبته بيدها فانقلع، وجند زوجها في القلعة لا يقدرون على شيء، فلما قلعت الشباك أرادت أن تدلي حبلاً ترفع به الرجال إليها، فلم يكن عندها غير ثياب خام، فوصلت بعضها ببعض ودلتها إلى القلعة، وشدت طرفيها عندها في عود فأصعدت إليها عشرة رجال، ولم يكن يراهم الذين على السطح.
ورأى الأمير عيسى، هو على جانب دجلة، الرجال يصعدون، فصاح هو ومن معه إلى أولئك الذين على السطح ليحذروا، وكانوا كلما صاحوا صاح أهل القلعة لتختلف الأصوات فلا يفهم الذين على السطح، فينزلون ويمنعون من ذلك، فلما اجتمع عندها عشرة رجال أرسلت مع خادم عندها إلى زوجها قدح شراب وأمرته أن يقرب منه كأنه يسقيه الشراب ويعرفه الحال، ففعل ذلك، وجلس بين يديه ليسقيه، وعرفه الحال، فقال: ازدادوا من الرجال، فأصعدت عشرين رجلاً، وخرجوا من عندها، فمد إبراهيم يده إلى الرجلين الموكلين به، فأخذ شعورهما، وأمر الخادم بقتلهما، وكان عنده، فقتلهما بسلاحهما، فخرج واجتمع بأصحابه وأرادوا فتح القلعة ليصعد إليه أصحابه من القلعة، فلم يجد المفاتيح،وكانت مع أولئك الرجال الذين على السطح، فاضطروا إلى الصعود إلى سطح القلة ليأخذوا أصحاب عيسى، فعلموا الحال، فجاؤوا ووقفوا على راس الممرق فلم يقدر أحد أن يصعد، فاخذ بعض أصحاب إبراهيم ترساً وجعله على رأسه، وحصل في الدرجة، وصعد وقاتل القوم على رأس الممرق، حتى صعد أصحابه فقتلوا الجماعة وبقي منهم رجل ألقى نفسه من السطح، فنزل إلى أسفل الجبل فتقطع. فلما رأى عيسى ما حل بأصحابه عاد خائباً مما أمله، واستقر الأمير إبراهيم في قلعته على حاله.

.ذكر نهب البندنيجين:

في هذه السنة وصل الملك الذي بخوزستان عند شملة، وهو ابن ملكشاه ابن محمود، إلى البندنيجين، فخربها ونهبها وفتك في الناس، وسبى حريمهم، وفعل كل قبيح.
ووصل الخبر إلى بغداد فخرج الوزير عضد الدين وعرض العسكر، ووصل عسكر الحلة وواسط مع طاشتكين أمير الحاج وغرغلي، وساروا نحو العدو، فلما سمع بوصولهم فارق مكانه وعاد، وكان معه من التركمان جمع كثير، فنهبهم عسكر بغداد، ورجعوا من غير أمر بالعود، فأنكر عليهم ذلك، وأمروا بالعود إلى مواقفهم، فعادوا لأوائل شهر رمضان، وقد رجع الملك فنهب من البندنيجين ما كان نهب من النهب الأول، ووقعت بينهم وبين الملك وقعة، ثم افترقوا، فمضى الملك وفارق ولاية العراق وعاد عسكر بغداد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، أقيمت الجمعة في الجامع الذي بناه فخر الدولة بن المطلب بقصر المأمون غربي بغداد.
وفيها أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الشافعي، رضي الله عنه، بمصر، وعمل بالقاهرة بيمارستان، ووقف عليهما الوقوف العظيمة الكبيرة.
وفيها رأيت بالموصل خروفين ببطن واحد ورأسين ورقبتين وظهرين وثماني قوائم كأنهما خروفين ببطن واحد، وجه أحدهما إلى وجه الآخر، وهذا من العجائب.
وفيها انقض كوكب أضاءت له الأرض إض اءة كثيرة، وسمع له صوت عظيم وبقي أثره في السماء مقدار ساعة وذهب.
وفيها توفي تاج الدين علي الحسن بن عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أخو الوزير عضد الدين وزير الخليفة.
وفيها، في المحرم، توفي القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن القاسم الشهرزوري، قاضي دمشق وجميع الشام، وإليه الوقوف بها والديوان، وكان جواداً فاضلاً رئيساً ذا عقل ومعرفة في تدبير الدول، رحمه الله ورضي عنه. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة:

.ذكر انهزام صلاح الدين بالرملة:

في هذه السنة، أواخر جمادى الأولى، سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر إلى ساحل الشام لقصد بلاد الفرنج، وجمع معه عساكر كثيرة وجنوداً غزيرة، فلم يزالوا يجدون السير حتى وصلوا عسقلان في الرابع والعشرين منه، فنهبوا واسروا وقتلوا واحرقوا وتفرقوا في تلك الأعمال مغيرين. فلما رأوا أن الفرنج لم يظهر لهم عسكر ولا اجتمع لهم من يحمي البلاد من المسلمين، طمعوا، وانبسطوا، وساروا في الأرض آمنين مطمئنين، ووصل صلاح الدين إلى الرملة، عازماً على أن يقصد بعض حصونهم ليحصره، فوصل إلى نهر، فازدحم الناس للعبور، فلم يرعهم إلا والفرنج أشرفت عليهم بأبطالها وطلابها، وكان مع صلاح الدين بعض العسكر، لأن أكثرهم تفرقوا في طلب الغنيمة، فلما رآهم وقف لهم فيمن معه، وتقدم بين يديه تقي الدين عمر بن محمد ابن أخي صلاح الدين، فباشر القتال بنفسه بين يدي عمه، فقتل من أصحابه جماعة، وكذلك الفرنج، وكان لتقي الدين ولد اسمه أحمد، وهو من احسن الشباب أول ما تكاملت لحيته، فأمره أبوه بالحملة عليهم، فحمل عليهم وقاتلهم وعاد سالماً قد أثر فيهم أثراً كثيراً، فأمره بالعودة إليهم ثانية، فحمل عليهم فقتل شهيداً، ومضى حميداً، رحمه الله ورضي عنه.
وكان اشد الناس قتالاً ذلك اليوم الفقيه عيسى، رحمه الله، وتمت الهزيمة على المسلمين، وحمل بعض الفرنج على صلاح الدين فقاربه حتى كاد أن يصل إليهن فقتل الفرنجي بين يديه، وتكاثر الفرنج عليه ن فمضى منهزماً، يسير قليلاً ويقف ليلحقه العسكر إلى أن دخل الليل، فسلك البرية إلى أن مضى في نفر يسير إلى مصر، ولقوا في طريقهم مشقة شديدة وقل عيهم القوت والماء، وهلك كثير من دواب العسكر جوعاً وعطشاً وسرعة سير.
وأما العسكر الذين كانوا دخلوا بلاد الفرنج في الغارة، فإن أكثرهم ذهب ما بين قتيل وأسير. وكان من جملة من اسر الفقيه عيسى الهكاري، وهو من أعيان الأسدية، وكان جمع العلم والدين والشجاعة، واسر أيضاً أخوه الظهير، وكانا قد سارا منهزمين فضلا الطريق، فأخذا ومعهما جماعة من أصحابهما، وبقوا في الأسر سنين، فافتدى صلاح الدين الفقيه عيسى بستين ألف دينار جماعة كثيرة من الأسرى.
ووصل صلاح الدين إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، ورأيت كتاباً كتبه صلاح الدين بخط يده إلى أخيه شمس الدولة تورانشاه وهو بدمشق، يذكر الوقعة، وفي أوله:
ذكرتك والخط يخطر بيننا ** وقد نهلت منا المثقفة السمر

ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما أنجانا الله سبحانه منه إلا لمر يريده سبحانه: وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر.

.ذكر حصر الفرنج مدينة حماة:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، حصر الفرنج أيضاً مدينة حماة، وسبب ذلك أنه وصل من البحر إلى الساحل الشامي كند كبير من الفرنج من اكبر طواغيتهم، فرأى صلاح الدين بمصر قد عاد منهزماً، فاغتنم خلو البلاد، لأن شمس الدولة بن أيوب كان بدمشق ينوب عن صلاح الدين، وليس عده كثير من العسكر، وكان أيضاً كثير الانهماك في اللذات مائلاً إلى الراحات، فجمع ذلك الكند الفرنجي من بالشام من الفرنج، وفرق فيهم الأموال، وسار إلى مدينة حماة فحصرها وبها صاحبها شهاب الدين محمد الحارمين خال صلاح الدين، وهو مريض شديد المرض، وكان طائفة من العسكر الصلاحي بالقرب منها، فدخلوا إليها وأعانوا من بها.
وقاتل الفرنج على البلد قتالاً شديداً وهجموا بعض الأيام على طرف منه، وكادوا يملكون البلد قهراً وقسراً، فاجتمع أهل البلد مع العسكر إلى تلك الناحية واشتد القتال، وعظم الخطب على الفريقين، واستقل المسلمون وحاموا عن الأنفس والأهل والمال، فاخرجوا الفرنج من البلد إلى ظاهره، ودام القتال ظاهر البلد ليلاً ونهاراً، وقويت نفوس المسلمين حين أخرجوهم من البلد، وطمعوا فيهمن واكثروا فيهم القتل، فرحل الفرنج حينئذ خائبين، وكفى الله المسلمين شرهم، وساروا إلى حارم فحصروها، وكان مقامهم على حماة أربعة أيام، ولما رحل الفرنج عن حماة مات صاحبها شهاب الدين الحارمي، وكان له ابن من أحسن الشباب مات قبله بثلاثة أيام.

.ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم:

في هذه السنة قبض الملك الصالح بن نور الدين على سعد الدين كمشتكين، وكان المتولي لمر دولته والحاكم فيها؛ وسبب قبضه أنه كان بحلب إنسان من أعيان أهلها يقال له أبو صالح بن العجمي، وكان مقدماً عند نور الدين محمد، فلما مات نور الدين تقدم أيضاً في دولة ولده الملك الصالح، وصار بمنزلة الوزير الكبير المتمكن لكثرة اتباعه بحلب ولأن كل من كان يحسد كمشتكين انضم إلى صالح، وقووا جنانه، وكثروا سواده؛ وكان عنده إقدام وجرأة فصار واحد الدولة بحلب ومن يصدر الجماعة عن رأيه وبأمره.
فبينما هو في بعض الأيام بالجامع وثب به الباطنية فقتلوه ومضى شهيداً، وتمكن بعده سعد الدين وقوي حاله، فلما قتل أحال الجماعة قتله على سعد الدين، وقالوا: هو وضع الباطنية عليه حتى قتلوه، وذكروا ذلك للملك الصالح، ونسبوه إلى العجز، وانه ليس له حكم، وأن سعد الدين قد تحكم عليه واحتقره واستصغره، وقتل وزيره، ولم يزالوا به حتى قبض عليه.
وكانت قلعة حارم لسعد الدين قد اقطعه إياها الملك الصالح، فامتنع من بها بعد قبضه، وتحصنوا بها، فسير سعد الدين غليها تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح، فأمرهم بذلك، فامتنعوا، فعذب كمشتكين وأصحابه لا يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع والعصيان.
فلما رأى الفرنج ذلك ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى، على ما نذكره، ظناً منهم أنهم لا ناصر لهم، وان الملك الصالح صبي قليل العسكر، وصلاح الدين بمصر، فاغنموا هذه الفرصة ونازلوها وأطالوا المقام عليها مدة أربعة أشهر، ونصبوا عليها المجانيق والسلالم، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم الملك الصالح مالاً، وقال لهم: إن صلاح الدين واصل إلى الشام، وربما أسلم القلعة ومن بها إليه، فأجابوه حينئذ إلى الرحيل عنها، فلما رحلوا عنها سير إليها الملك الصالح جيشاً فحصروها، وقد بلغ الجهد منهم بحصار الفرنج، وصاروا أنهم طلائع، وكان قد قتل من أهلها وجرح الكثير، فسلموا القلعة إلى الملك الصالح، فاستناب بها مملوكاً كان لأبيه، اسمه سرخك.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في المحرم، خطب للسلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل ابن محمد بن ملكشاه المقيم عند إيلدكز بهمذان، وكان أبوه أرسلان قد توفي.
وفيها، سابع شوال، هبت ببغداد ريح عظيمة، فزلزلت الأرض، واشتد الأمر على الناس حتى ظنوا أن القيامة قد قامت، فبقي ذلك ساعة ثم انجلت، وقد وقع كثير من الدور، ومات فيها جماعة كثيرة.
وفيها، رابع ذي القعدة، قتل عضد الدين أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة وزير الخليفة، وكان قد عزم على الحج فعبر دجلة ليسير، وعبر معه أرباب المناصب، وهو في موكب عظيم، وتقدم إلى أصحابه أن لا يمنعوا عنه أحداً، فلما وصل إلى باب قطفتا لقيه كهل فقال: أنا مظلوم؛ وتقدم ليسمع الوزير كلامه فضربه بسكين في خاصرته، فصاح الوزير: قتلني! ووقع من الدابة، وسقطت عمامته، فغطى رأسه بكمه، وضرب الباطني بسيف، وعاد إلى الوزير فضربه، وأقبل حاجب الباب ابن المعوج لينصر الوزير، فضربه الباطني بسكين وقيل بل ضربه رفيق كان للباطني، ثم قتل الباطني ورفيقه؛ وكان لهما رفيق ثالث، فصاح وبيده سكين وقتل ولم يعمل شيئاً، وأحرقوا ثلاثتهم وحمل الوزير إلى دار له هناك، وحمل حاجب الباب مجروحاً إلى بيته، فمات هو والوزير، وحمل الوزير فدفن عند أبيه بمقبرة الرباط عند جامع المنصور.
وكان الوزير قد رأى في المنام أنه معانق عثمان بن عفان، وحكى عنه ولده أنه أغتسل قبل خروجه، وقالك هذا غسل الإسلام، وانا مقتول بلا شك؛ وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة، وكان أبوه أستاذ دار المقتفي لأمر الله، فلما مات ولي هو مكانه، فبقي كذلك إلى أن مات الممقتفي، فأقره المستنجد على ذلك ورفع قدره، فلما ولي المستضيئ استوزره، وكان حافظاً للقرآن، سمع الحديث، وله معروف كثير، وكانت دارم مجمعاً للعلماء، وختمت اعماله بالشهادة وهو على قصد الحج.
وفيها كانت فتنة ببغداد، وسببها أنه حضر قوم من مسلمي المدائن إلى بغداد، فشكوا من يهودها، وقالوا: إنا مسجد نؤذن فيه ونصلي، وهم مجاور الكنيسة، فقال لنا اليهود: قد آذيتمونا بكثرة الآذان، فقال المؤذن: ما نبالي بذلك، فاختصموا، وكانت فتنة استظهر فيها اليهود، فجاء المسلمون يشكون منهم، فأمر ابن العطار، وهو صاحب المخزن، بحبسهم، ثم أخرجوا، فقصدوا جامع القصر، واستغاثوا قبل صلاة الجمعة، فخفف الخطيب الخطبة والصلاة، فعادوا يستغيثون، فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم، فلما رأى العامة ما فعل بهم غضبوا نصرة للإسلام، فاستغاثوا، وقالوا أشياء قبيحة، وقلعوا طوابيق الجامع، ورجما الجند فهربوا، ثم قصد العامة دكاكين المخلطين، لأن أكثرهم يهود، فنهبوها، وأراد حاجب الباب منعهم، فرجموه فهرب منهم، وانقلب البلد وخربوا الكنيسة التي عند دار البساسيري، وأحرقوا التوراة فاختفى اليهود، وأمر الخليفة أن تنقض الكنيسة التي بالمدائن وتجعلوا مسجداً ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها قوم من المفسدين، فظنها العامة نصبت تخويفاً لهم لأجل ما فعلوا، فعلقوا عليها في الليل جرذاناً ميتة، وأخرج جماعة من الحبس لصوص فصلبوا عليها.
وفيها، في شعبان، قبض سيف الدين غازي، صاحب الموصل، على وزيره جلال الدين علي بن جمال الدين بغير جرم ولا عجز، ولا تقصير، بل لعجز سيف الدين، فإن جلال الدين كان بينه وبين مجاهد الدين قايماز مشاحنة، فقال مجاهد الدين لسيف الدين: لا بد من قبض الوزير؛ فقض عليه كارهاً لذلك، ثم شفع فيه ابن نيسان رئيس آمد لصهر بينهما، فأخرجن وسار إلى آمد فمرض بها، وعاد إلى دنيسر، فمات سنة أربع وسبعين وعمره سبع وعشرون سنة، وحمل إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، فدفن عند والده في الرباط الذي بناه بها.
وكان، رحمه الله، من محاسن الدنيا، جمع كرماً، وعلماً، وديناً، وعفة، وحسن سيرة، واستحلفه سيف الدين أنه لا يمضي إلى صلاح الدين لأنه خاف أن يمضي إليه للمودة التي كانت بين جمال الدين وبين نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، فبلغني أن صلاح الدين طلبه فلم يقصده لليمين.
وفيها اجتمع طائفة من الفرنج وقصدوا أعمال حمص، فنهبوها وغنموا، وأسروا وسبوا، فسار ناصر الدين محمد بن شيركوه، صاحب حمص وسبقهم ووقف على طريقهم، وكمن لهم، فلما وصلوا إليه خرج إليهم هو والكمين، ووضعوا السيف فيهم، فقتل أكثرهم، وأسر جماعة من مقدميهم، ومن سلم منهم لم يفلت إلا وهو مثخن بالجراح، واسترد منهم جميع ما غنموا فرده على أصحابه.
وفيها، في ربيع الآخر توفي صدقة بن الحسين الحداد، الذي ذيل تاريخ ابن الزغوني ببغداد، وفيها، في جمادى الأولى، توفي محمد بن أحمد بن عبد الجبار الفقيه الحنفي المعروف بالمشطب ببغداد. ثم دخلت:

.سنة أربع وسبعين وخمسمائة:

.ذكر قصد الفرنج مدينة حماة أيضاً:

في هذه السنة، في ربيع الأول، سار جمع كثير من الفرنج بالشام إلى مدينة حماة، وكثر جمعهم من الفرسان والرجالة طمعاً في النهب والغارة، فشنوا الغارة، ونهبوا وخربوا القرى، وأحرقوا، واسروا، وقتلوا، فلما سمع العسكر المقيم بحماة ساروا إليهم، وهم قليل، متوكلين على الله تعالى، فالتقوا، واقتتلوا، وصدق المسلمون القتال، فنصرهم الله تعالى، وانهزم الفرنج، وكثر القتل والأسر فيهم، واستردوا منهم ما غنموه من السواد.
وكان صلاح الدين قد عاد من مصر إلى الشام في شوال من السنة المتقدمة، وهو نازل بظاهر حمص، فحملت الرؤوس والأسرى والأسلاب إليه، فأمر بقتل الأسرى فقتلوا.

.ذكر عصيان ابن المقدم على صلاح الدين وحصر بعلبك وأخذ البلد منه:

في هذه السنة عصى شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم على صلاح الدين ببعلبك، وكانت له قد سلمها إليه صلاح الدين لما فتحها جزاء له حيث سلم إليه ابن المقدم دمشق، على ما سبق ذكره، فلم تزل بيده إلى الآن، فطلب شمس الدولة بن أيوب أخو صلاح الدين منه بعلبك، وألح عليه في طلبها لأن تربيته ومنشأه كان بها، وكان يحبها، ويختارها على غيرها من البلاد، وكان الأكبر، فلم يمكن صلاح الدين مخالفته، فأمر شمس الدين بتسليمها إلى أخيه ليعوضه عنها، فلم يجب إلى ذلك، وذكره العهود التي له، وما اعتمده معه من تسليم البلاد، فلم يصغ إليه ولج عليه في أخذها، وسار ابن المقدم إليها، واعتصم بها، فتوجه إليه صلاح الدين، وحصره بها مدة، ثم رحل عنها من غير أن يأخذها، وترك عليه عسكرا يحصره، فلما طال عليه الحصار أرسل إلى صلاح الدين يطلب العوض عنها ليسلمها إليه، فعوضه عنها وسلمها، فأقطعها صلاح الدين أخاه شمس الدولة.

.ذكر الغلاء والوباء العام:

في هذه السنة انقطعت الأمطار بالكلية في سائر البلاد الشامية والجزيرة والبلاد العراقية، والديار بكرية، والموصل وبلاد الجبل وخلاط، وغير ذلك، واشتد الغلاء، وكان عاماً في سائر البلاد، فبيعت غرارة الحنطة بدمشق، وهي اثنا عشر مكوكاً بالموصلي، بعشرين ديناراً صورية عتقاً، وكان الشعير بالموصل كل ثلاثة مكاكي بدينار أميري، وفي سائر البلاد ما يناسب ذلك.
واستسقى الناس في أقطار الأرض، فلم يسقوا، وتعذرت الأقوات، وأكلت الناس الميتة وما ناسبها، ودام كذلك إلى آخر سنة خمس وسبعين؛ ثم تبعه بعد ذلك وباء شديد عام أيضاً، كثر فيه الموت، وكان مرض الناس شيئاً واحداً، وهو السرسام، وكان الناس لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أن بعض البلاد كان أشد من البعض.
ثم إن الله تعالى رحم العباد والبلاد والدواب وأرسل الأمطار، وأرخص الأسعار.
ومن عجيب ما رأيت أنني قصدت رجلاً من العلماء الصالحين بالجزيرة لأسمع عليه شيئاً من حديث النبي، عليه السلام، في شهر رمضان سنة خمس وسبعين، والناس أشد ما كانوا غلاء وقنوطاً من الأمطار، وقد توسط الربيع ولم تجئ قطرة واحدة من المطر، فبينا أنا جالس ومعي جماعة ننتظر الشيخ، إذ أقبل إنسان تركماني قد أثر عليه الجوع، وكأنه قد أخرج من قبر، فبكى وشكا الجوع، فأرسلت من يشتري له خبزاً، فتأخر إحضاره لعدمه، وهو يبكي ويتمرغ، على الأرض ويشكو الجوع، فلم يبقى فينا إلا من بكى رحمة له وللناس، ففي الحال تغيمت السماء وجاءت نقط من المطر متفرقة، فضج الناس واستغاثوا،ثم جاء الخبز، فأكل التركماني بعضه، وأخذ الباقي بعضه، وأخذ الباقي ومشى واشتد المطر ودام المطر من تلك الساعة.

.ذكر غارات الفرنج على بلاد المسلمين:

في هذه السنة، في ذي القعدة، اجتمع الفرنج وساروا إلى بلد دمشق مع ملكهم، فأغاروا على أعمالها فنهبوها وأسروا وقتلوا وسبوا، فأرسل صلاح الدين فرخشاه، ولد أخيه، في جمع من العسكر إليهم، وأمره إذا قاربهم يرسل غليه يخبره على جناح طائر ليسير إليه، وتقدم إليه أن يأمر أهل البلاد بالانتزاح من بين يديي الفرنج، فسار فرخشاه في عسكره يطلبهم، فلم يشعر إلا والفرنج قد خالطوه، فاضطر إلى القتال، فاقتتلوا اشد قتال رآه الناس، وألقى فرخشاه نفسه عليهم، وغشي الحرب ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنج ونصر المسلمون عليهم، وقتل من مقدميهم جماعة ومنهم همفري، وما أدراك ما همفري؟ به كان يضرب المثل في الشجاعة والرأي في الحرب، وكان بلاء صبه الله على المسلمين، فأراح الله من شره. وقتل غيره من أضرابه، ولم يبلغ عسكر فرخشاه ألف فارس.وفيها أيضاً أغار البرنس صاحب أنطاكية ولاذقية على جشير المسلمين بشيزر وأخذه، وأغار صاحب طرابلس على جمع كثير من التركمان، فاحتجف أموالهم، وكان صلاح الدين على بانياس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فسير ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى مصر، وأمرهما بحفظ البلاد، وحياطة أطرافها من العدو، دمرهم الله تعالى.